والثاني : أن تكون لام الصيرورة، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر، وبعدها « أن » مضمرة، وهي وما بعدها في محلّ جر، وأتى ب « شهداء » جمع « شهيد » الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جميع « شاهد ».
وفي « على » قولان :
أحدها : أنها على بابها، وهو الظاهر.
والثاني : أنها بمعنى « اللام »، بمعنى : أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في « على » الأخيرة، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم.
وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً، وقدم أولاً لوجهين :
أحدهما : وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
والثاني : أن « شهيداً » أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من « عليكم »، فكان قوله « شهيداً » تمام الجملة، ومقطعها دون « عليكم »، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص، وقد تقدم ذلك.

فصل في الكلام على الشهادة.


اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان :
الأول : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم.
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد - ﷺ - فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق، فيؤتى بمحمد - ﷺ - فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ] وقد طعن القاضي رحمه الله تعالى في هذ الرواية من وجوه :
أحدها : أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون.
وهذا باطل عند القاضي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة « الأنعام » عند قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ - ٢٤ ].
وثانيها : أن شهادة الأمة، وشهادة الرسول - ﷺ - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء؟
والجوا : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - ﷺ - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعاً، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق.


الصفحة التالية
Icon