وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً، وهذا كلام بيّن.
الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً.
قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين، لا يجوز له الاكتفاء بالظن، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
الثالث : لو كان استقبال العين واجباً إام علماً أو ظنّاً، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين، ولما لم يكن كذلك علمنا أان استقبال العين غير واجب.
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها، ويؤيده قوله ﷺ :« خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ » خرج منه الصلاة حال المُسَايفة، والخوف، والمطلوب والخائف والهارب من العدود، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه ﴾ تكرار لقوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
فالجواب : أن هذا ليس بتَكْرَار، وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة.
وقوله :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه ﴾ خطاب مع الكل.
وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم، وهم ب « المدينة » خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل « المدينة » خاصة، فبيّن الله تعالى أنهم أينما صلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
[ قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾.