﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٨ ] أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه غليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله انها حقٌّ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة.
نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال : الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ثم يقال : الزم هذه القبلة، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ آلااء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٦ ] وكذلك ما كرر في قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨ ].
وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاح البينات.
أما قوله سبحانه وتعالى :﴿ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق، وهم يعرفونه، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم :﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] وبأنه قد اشتاق إلى مولده، ودين آبائه، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [ وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم ].
قوله تعالى :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾ هذه لام « كي » بعدها « أن » المصدرية الناصبة للمضارع، و « لا » نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ] و « أن » هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾.
وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و « للناس » خبر ل « يكون » مقدّم على اسمها، وهو « حجّة »، و « عليكم » في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالاً، ولا يتعلق ب « حجة » لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب « حجة » وهو ضعيف، ويجوز أن يكون « عليكم » خبراً ل « يكون » ويتعلق « للناس » ب « يكون » على رأي من يرى أن « كان » الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله « يكون » ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضاً. [ وقال أبو روق : المراد ب « النَّاس » : أهل الكتاب.


الصفحة التالية
Icon