اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره.
وقال أَبُو مُسْلِم : يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمء، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذشين يكْتُمُون، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ، وأيضاً : فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت. وجوابُهُ : إِنَّمَا يصحُّ هذا، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ.
فإنْ قيل : كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ، وأهْلُ [ دينِهِ لا يلْعَنُونَه ].
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ :
أحدها : أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] قال أبو العَالِيَةِ :« يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ، فيلْعَنُهُ اللَّهُ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ ».
وثانيها : قال قَتَادَةُ، والرَّبِيع : أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ.
وثالثها : أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ، الظَّال؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [ هو جاهلاً، أو ظالماً، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ.
ورابعها : أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك.
فَصل فِي بَيضانِ جَوِازٍ لَعْنٍ مَنْ مَاتَ كَافِراً
قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ اللَّه عنه - : الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين لعن مَنْ مات كَافِراً، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى :« وَالنَّاس أَجْمَعِينَ » أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر، لَوْ جُنَّ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [ جنونُهُ لا يغيِّر ] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به.
قوله تعالى :« وَمَاتُوا » الواو هذه واو الحال، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ؛ خلافاً للفَرَّاء، والزَّمَخْشَريِّ، حيثُ قالا : إنَّ حَذْفَها شاذٌ. وقوله ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله ﴾ :« أُولَئِكَ » : مبتدأٌ، [ و ﴿ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ﴾ : مبتدأ وخَبَرُه، خَبَرٌ عَنْ « إِنَّ »، ويجُوزُ في « لَعْنَةُ » الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها؛ لاعتَمادهَا؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن « أولئك » وتقدَّم تحريرُهُ في ﴿ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ].
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابْنُ الْعَرَبيِّ : قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي : إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ، وقَدْ شَرَط اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ : المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر.