أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني : الجوازَ مُطْلَقاً.
والثاني : المَنْعُ مُطْلَقاً : وهو الصحيحُ.
والثالث :[ التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول، فيجوز؛ نحو : عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ ] زيد بالعلم، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من « حُبّ » أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها، فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله ﷺ وشَرَّف، وكرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر، وَذُوا الطُّفيتين برفع « ذُو » ؛ عَطْفاً على محل « الأبتر » لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا.
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر « المُؤْمنِينَ » أو ضميرهم.
وقال « لَيْسَ بشَيْءٍ » والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ :﴿ والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين، أي : يحبُّون الأصنام، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله، فَسَوَّوْا بين الله تعالى، وبين أوثانهم في المَحَبَّة، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي قوله ﴿ والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة. وقرأ أبو رجاء :« يَحُبُّونَهُمْ » بفتح الياء من « حَبَّ » ثلاثيّاً، و « أَحَبَّ » أكثر، وفي المَثَل :« مَنْ حَبَّ طَبَّ ».
فصل في المراد من قوله كحب الله
في قوله : كَحُبِّ الله قولان :
الأول : كَحُبِّهِم للَّهِ.
والثاني : كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ.
فإِن قيل : العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع، ولا تعقلُ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] فمع هذا الاعتقادِ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى، وقال تعالى؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ؟
والجواب : كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها، والتَّعْظِيمِ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه.
قوله تعالى :« أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ » : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [ الأندادَ، أي : أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين ] الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء : ما يتعلَّق به « أَشَدُّ » محذوفٌ، تقديره : أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [ أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء ] المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى ب « أشَدُّ » موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة « الحُبِّ » ؛ لأنَّ « حُبَّ » مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه « أَفْعَل » للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.