يقال : نَعَقَ، بفتح العَيْنِ، يَنْعِقُ، بكَسْرها، والمصدرُ النَّعيقُ والنُّعَاقُ، والنَّعْقُ، وأما « نَعَقَ الغُرَابُ »، فبالمعجمة، وقيل : بالمهملة أيضاً في الغُرَاب، وهو غريبٌ.
قال بعضهم : إنَّ الياء والنُّون من قوله :« يَنْعِقُ » من نصف هذه السُّورة الأوَّل، والعَيْنَ والقَافَ من النصف الثَّاني.
« إلاَّ دعاء » : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ؛ لأن قبله « يَسْمَعُ » ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن « إلاَّ » زائدةٌ، فليس من الاستثناء في شيء، وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادة « إلاَّ » في قوله :[ الطويل ]
٨٩٧ - حَرَجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخةً | عَلَى الخَسْفِ أو نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْراً |
وأورد بعضهم هنا سؤالاً معنويّاً، وهو أن قوله ﴿ لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمَّهم بأنَّهم لا يسمعون إلا الدعاء؛ وكأنَّه قيل : لا يسمعون إلاَّ المسموع، وهذا لا يجوز؟
فالجواب : أن في الكلام إيجازاً، وإنَّما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم؛ كما لا تميِّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوَّت بها، وإنَّما تفهم شيئاً يسيراً، قد أدركته بطول الممارسة، وكثرة المعاودة؛ فكأنه قيل لهم : إلاَّ سماع النِّداء دون إدراك المعاني، والأغراض.
قال شِهَابُ الدِّين : وهذا السُّؤال من أصله ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشَّيخ ذكره، لم أذكره.
وهنا سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ؟ والجواب : أنه ليس كذلك؛ فإن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصَّوت.
وقال القرطبيُّ - رحمه الله - : النداء للبعيد، والدعاء للقريب، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ؛ لأنه للأباعد، وفي هذا نظر؛ لأنَّ النبيَّ - عليه السلام - قال :« الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ »
قال ابنُ الأثِير في « النَّهَايَة » : أراد بالدَّعوة الأذان، وجعله في الحبشة؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ، وقال شاعر الجاهليَّة :[ الوافر ]
٨٩٨ - فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي | وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي |
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا | قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ |
قوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] لمَّا شبَّههم بالبهائم، زاد في تبكيتهم، فقال :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ ؛ لأنَّهم صارُوا بمنزلة الأصَمِّ؛ في أنَّ الذي سَمِعُوه، كأنَّهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكْم؛ في ألاَّ يستجيبوا لما دعوا إليه، ومن حيث العمي؛ من حيث إعراضهم عن الدَّلائل؛ فصاروا كأنَّهم لم يشاهدوها، قال النُّحاة :« صُمٌّ »، أي : هم صمٌّ، وهو رَفْع على الذَّمِّ.
وقوله :« فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون » فالمراد : العقْلُ المكتَسَبُ هو الاستعانة بهذه القُوَى الثَّلاثة، فلمَّا أعرضوا عنهان فقد فقدوا العقل الكسبيَّ، ولهذا قيل : من فقد حسّاً، فَقَدْ فَقَدَ علماً، والله تعالى أعلم.