وقيل :« غَيْرَ بِاغٍ » أي : غير طالبها، وهو يجد غيرها، « وَلاَ عَادٍ »، أي : غير متعدٍّ ما حد له، فيأكل حتَّى يشبع، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه.
وقال مقاتل :« غَيْرَ بَاغٍ » أي : مستحلٌّ لها، « وَلاَ عَادٍ » أي : يتزوَّد منها، وقيل :« غَيْرَ بَاغٍ »، أي : مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له، « وَلاَ عَادٍ » أي : لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروقٌ : من اضطُرَّ إلى الميتة، والدم، ولحم الخنزيرن فلم يأكل، ولم يقرب، حتى مات، دخل النَّار.
وقال سهل بن عبد الله :« غَيْرَ بَاغٍ » : مفارقٍ للجماعة، « ولاَ عَادٍ »، أي : ولا مبتدعٍ مخالف السنة، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة.
فإن قيل : الأكل في تلك الحالة واجبٌ، وقوله :﴿ فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أيضاً يفيد الإباحة.
وأيضاً : فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه.
فالجواب : أنَّا قد بينَّا عند قوله ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب، والمندوب، والمباح، وأيضاً : قوله تبارك وتعالى :﴿ فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ : معناه : رفع الحرج والضِّيق.
واعلم : أنَّ هذا الجائع، إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع، إذا أمكنه ذلك، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة، يخرج عن أن يكون ملجأً، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار.
فإن قيل : قوله تبارك وتعالى :﴿ فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ يناسب أن يقال بعده :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني : لأجل الرحمة عليكم، أبحت لكم ذلك.
وثانيها : لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها : ان الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى :« غَفُورٌ » للعصاة، إذا تابوا، « رَحِيمٌ » بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : قوله تعالى ﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ معناه : أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي، ولا بصفة العدوان ألبتَّة، فأكل؛ فلا إثم عليه.
احتجَّ الشافعي - رضي الله عنه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ، ولا عادٍ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا : طفلانٌ ليس بمتعدً « نقيضٌ لقولنا :» فلانٌ متعدٍّ «، وقولنا :» فُلاَنٌ متعدٍّ « يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور، سواء كان في سفرٍ، أو أكلٍ، أو غيرهما، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا » غَيْرَ بِاغٍ، وَلاَ عَادٍ « لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره، فلا يصدق عليه كونه » غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ «، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم.