قال بعضُهُم : ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله :﴿ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وقال بعضهُم : بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه « فِي بطُونِهِمْ »، يقالُ : أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ.

فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة


قال الحسن، والرَّبيع، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة :« إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ »
وقوله تبارَكَ وتَعَالى :﴿ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً ﴾ [ يوسف : ٣٦ ] أي : عِنباً؛ فهذا كلُّ من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه. وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ.
قوله :﴿ إِلاَّ النَّارَ ﴾ استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ، جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم :« أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ »، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك :[ الطويل ]
٩٠٤ - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ رَضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وقال القائلُ :[ الطويل ]
٩٠٥ - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال :[ الرجز ]
٩٠٦ - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا... يريد : ثَمَنَ إكافٍ.
وقوله :« في بُطُونِهِم » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أَن يتعلَّق بقوله « يَأْكُلُونَ » فهو ظرْفٌ له، قال أبو البقاء : وفيه حذفُ مضافٍ، أي « طَرِيقِ بُطُونِهِمْ » ولا حاجة غلى ما قاله من التَّقْدِير.
والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار.
قال أبُو البقاء : والأجودُ : أن تكونُ الحال هُنّا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ. وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك، والتقديرُ : ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم.
قال : ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء.
وهو ضعيفٌ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و « فِي بُطُونِهِمْ » حالاً منه، أَو صفةً له، أي : في بطونِهِم شيئاً، يعني فيكون :« إلاَّ النَّارُ » منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنىً من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك : وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز للإعْرَابِ حكْمُ اللفظ.
والثالث : أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول « كُلُوا » محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه.
قوله : في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى « إلاَّ النَّار »، أي : أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه، فسمّى ما أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين.
وقيل : إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى


الصفحة التالية