الرابع : أن يعود على « مَنْ آمَنَ »، وهو المؤتي للمال، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل، وعلى هذا : فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً، أي :« حُبِّه المَالَ »، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.
قال ابْنُ عَطِيَّة : ويجيء قوله « عَلَى حُبِّهِ » اعتراضاً بليغاً في أثناء القول.
قال أبو حيَّان - رحمه الله - : فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه، فليس بجيِّد، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها، وهذا مفردٌ، وله محلٌّ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين، وهما « المال »، و « ذَوِي »، فيصحُّ، إلا انه فيه إلباسٌ.

فصل في معنى الإيتاء


اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قومٌ : إنَّها الزكاة، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه، بقوله :﴿ وَأَقَامَ الصلاة ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] ومن حق المعطوف، والمعطوف عليه المغايرة، ثم لا يخلو : إمَّا أن يكون تطوُّعاً : أو واجباً، ولا جائز أن يكون تطوُّعاً؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة :﴿ وأولئك هُمُ المتقون ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وقف التقوى عليه، ولو كانه تطوُّعاً، لما وقف التقوى عليه، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ، وأنه غير الزكاة، ففيه أقوال :
أحدها : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة؛ مثل : إطعام المضطرِّ؛ ويدل عليه قوله - ﷺ - :« لاَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ »
ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس :« إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة » ثم تلت « وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ».
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال، فأدى زكاته، فهل عليه سواه؟ فقال : نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وأيضاً : فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة.
فإن قيل : الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة.
فالجواب : أنَّه - عليه السَّلام - قال :« في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ » ؛ وقول الرسول أولى، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً، فغير منسوخ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب، والمماليك.
فإن قيل : إذا صحَّ هذا التأويل، فما الحكمة في هذا التَّرتيب؟!
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة، والصَّدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه، ولذلك يستحقُّ بها الإرث، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة، حتى لا يتمكَّن من الوصية، إلا في الثُّلث، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات؛ لقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon