في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه :
أحدها : أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة.
أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتِلَ تَرَكَ القَتْل؛ فلا يقتل، فيَبْقَى حَيّاً، وأمَّا في حقِّ المقتول : فإنَّ مَنْ أراد قتلَه، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول، وأمَّا في حِّ غيرهما : فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك، فيصير حياةً للكُلِّ.
وثانيها : أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة؛ لأنَّ سَافِك الدَّم، إِذَا أُقِيدَ منْه، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل، فلم يقتل، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه.
وثالثها : معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا، حيي في الآخرة، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الخرة وها الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج.
ورابعها : قال السُّدَّيُّ : ت المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة.
وقرأ أبو الجوزاء في القَصَصِ والمراد به القُرآن.
قال ابنُ عطيَّة ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً، قُتِل.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ فِي القصاص حَيَاةٌ ﴾ أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ.

فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية


قالت المعتزلة : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة؛ لقوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب ﴾، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية.
وأجيب بقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] وقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] ﴿ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ وح : ٤ ] ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ، ولا يصحُّ أن يقال : إِنَّه لو لم يُقْتَلُ، لعاش؛ لما ذكرنا من الآيات.
أمَّا وجوب الضمان والدِّية، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل.

فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة


اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةٌ بالغةٌ أعلى الدَّرجَات؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى « القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ »، ويروى « أَنْفَى لِلْقَتْل »، ويروَى « أَكَفُّ لِلْقَتْلِ »، ويروى « قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع »، ويروى :« أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ » فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة، وُجدت في الآية الكريمة دونه :
منْها : أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ.


الصفحة التالية
Icon