والثاني : أنَّهُ مفعول « كُتِبَ »، وقد تقدَّم.
والثالث : أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي :« فعلَيْهِ الوصيَّةُ »، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ.
فصل في المراد من حضور الموت.
قوله ﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ﴾ ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء، ثم ذكر في ذلك وجهَين :
أحداهم : وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت؛ كالمَرَض المَخُوف؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد :« وَصَلَ » ؛ قال عنترة :[ الوافر ]
٩٢١ - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما | وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي |
٩٢٢ - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ | فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ |
فصل في المراد بالخير في الآية
المرادُ بالخَير هنا المالُ؛ كقوله :﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ] ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٨ ] ﴿ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [ القصص : ٢٤ ] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ : وقد وَرَدَ لفظ « الخَيْر » في القرآن بإزاء ثمانية معان :
الأَوَّل : الخَيْرُ : المالُ؛ كهذه الآية.
الثاني : الإيمانُ، قال تعالى :﴿ إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] أي : إيماناً، وقوله ﴿ ﴾ [ الأنفال : ٧٠ ]، يعني : إيماناً.
الثالث : الخير الفضل؛ ومنه قوله :﴿ خَيْرُ الرازقين ﴾ [ المائدة : ١٤ ] [ الحج : ٥٨ ] [ المؤمنون : ٧٢ ] [ سبأ : ٣٩ ] [ الجمعة : ١١ ] ﴿ خَيْرُ الراحمين ﴾ [ المؤمنون : ١٠٩، ١١٨ ] ﴿ خَيْرُ الحاكمين ﴾ [ الأعراف : ٨٧ ] [ يونس : ١٠٩ ] [ يوسف : ٨٠ ].
الرابع : الخير : العافية؛ قال تعالى :﴿ إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ﴾ [ يونس : ١٠٧ ]، أي : بعافية.
الخامس : الثَّواب قال تعالى :﴿ والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ [ الحج : ٣٦ ]، أي : ثواب وأجر.
السادس : الخير : الطَّعام؛ قال :﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [ القصص : ٢٤ ].
السابع : الخير : الظَّفر والغنيمة؛ قال تعالى :﴿ وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾ [ الأحزاب : ٢٥ ].
الثامن : الخير : الخيل؛ قال تعالى :﴿ أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾ [ ص : ٣٢ ]، يعني : الخيل.
ثم اختلفوا هان على قولين :
فقال الزهريُّ : لا فرق بين القليل، والكثير، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ، لأن المال القليل خير؛ لقوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧ - ٨ ] ﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [ القصص : ٢٤ ] والخير : ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، وأيضاً : قوله تعالى في المواريث :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ﴾ [ النساء : ٧ ] فتكون الوصية كذلك.
الثاني : أن الخير هو المال الكثير؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، ولا يقال : فلانٌ ذو مالٍ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لما كان التقييد بقوله :﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْراً ﴾ كلاماً مفيداً؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً، وأمَّا من يموت عرياناً، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير، فهل هو مقدَّر، أم لا؟ فيه قولان :
الأول : أنه مقدَّر، واختلفوا في مقداره؛ فروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - : أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أَوَلاً أوصي؟ فقال : لا؛ إنَّما قال الله :﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْراً ﴾ والخير : هو المال الكثير، وليس لك مالٌ.