الثالث : ان ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة؛ فيكون عاملة محذوفاً، أي : حُقَّ ذلك حَقّاً، قاله الزمَّخشرِيُّ، وابن عطيَّة، وأبو البَقَاء.
قال أبو حَيَّان : وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة؛ لأن ظاهر قوله « على المُتَّقِينَ » أن يتعلَّق ب « حَقّاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين لا يجوز.
أما الأول؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وأما الثاني؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد.
قال شهاب الدِّين : وهذا لا يلزمهم؛ فإنهم، والحالة هذه، لا يقولون : إنَّ » عَلَى المُتَّقِينَ « متعلِّق به، وقد نصَّ على ذلك أو بالبَقَاءِ - رحمه الله -؛ فإنه قال : وقيل : هو متعلِّق بنفس المصدر، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف، إذا ناب عنه؛ كقولك » ضَرباً زيداً «، أي :» اضْرِبْ « إلاَّ أنه جعله صفة ل » حقّ « فهذا يرد عليه، وقال بعض المعربين : إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين : كأنَّه قيل » عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً؛ كقوله :﴿ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ [ الأنفال : ٧٤ ] وهذا ضعيف؛ لتقدمه على عاملة الموصول، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن.
قال أبو حيَّان : والأولى عندي : أن يكون مصدراً من معنى « كُتِبَ » ؛ لأن معنى « كُتِبَ الوَصِيَّةُ »، أي : حقَّت ووجبت، فهو مصدر على غير الصدر، نحو :« قَعَدت جُلُوساً ».
فإن قيل : ظاهر هذا لتَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين، دون غيرهم؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى :﴿ حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى، وتحرَّاه، وجعله طريقةٌ له ومذهباً، فيدخل الكل فيه.
وأيضاً : فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف.
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القُرْطُبيُّ : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر.
فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا : أن الموصي، إذا أوصى في صحَّته، أو مرضه بوصيَّةٍ، فيها عتق رقيق، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة، ويسقطها فَعَل، إلاَّ أن يدبِّر، فإن دبَّر مملوكاً، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر.
قال أبو الفرج المالكيُّ : المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق، والعتق إلى أجلٍ؛ فكذلك المدبِّر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد : هو وصيَّةٌ.