فمن كان من هؤلاء وارثاً، لم يتجز الوصيَّة له، ومن كان منهم غير وارث، صحَّت الوصيَّة له، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله :﴿ واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام ﴾ [ النساء : ١ ]، وبقوله :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى ﴾ [ النحل : ٩٠ ]، والقائلون بالنسخ : اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة، فقال بعضهم : بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه.
قال ابن الخطيب وهذا بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص، والنَّسخ.
فإن قيل : لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم؛ بسبب الإرث، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ؟!
فالجواب : أن هذا تخصيص، لا نسخ.
وقال بعضهم أيضاً : إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام -، « لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ »، وفيه إشكالٌ؛ من حيث إنَّه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، فإن قيل : بأنه، وإن كان خبر واحد، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، فالتحق بالمتواتر.
فالجواب : سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، لكن على وجه الظَّنِّ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، وإن كان على وجه القطع فممنوع؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته، مع أنه من باب الآحاد، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ، وإنه غير جائزٍ.
وقال آخرون : إنها نسخت بالإجماع، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل، ولقائل أن يقول : لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ؛ فحينئذٍ : لم يثبت الإجماع.
وقال قوم : نسخت بدليلٍ قياسٍّ، وهو أن نقول : هذه الوصية، لو كانت واجبةً، لكانت، إذا لم توجد هذه الوصيَّة، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ [ النساء : ١٢ ] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ، فالمال أجمع للوارث.
ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ.
قال القرطبيُّ : قوله تعالى « حَقًّا » أي : ثابتاً ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله :« عَلَى المتقين » وهذا يدل على كونه مندوباً؛ لأنه لوكان فرضاً، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره.

فصل « في حقِّ من نسخت الآية »


قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث.
وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء : إنَّها نسخت في حقِّ من يرث، وثابتة في حقِّ من لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن، ومسروق، وطاوسٍ، والضَّحَّاك، ومسلم بن يسارٍ، والعلاء بن زياد.


الصفحة التالية
Icon