قال القُرْطُبِيُّ : الخطاب في قوله :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ ﴾ لجميع المسلمين، أي : إن خفتم من موص جنفاً، أي : ميلاً في الوصيَّة، وعدولاً عن الحقِّ، ووقوعاً في إثم، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته؛ لينصرف المال إلى ابنته [ أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ، أو أوصى لبعيدٍ ]، وترك القريب؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصُّلح، سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، إذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا، أثم الكل.
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ، ويستحقُّ الثَّواب عليه، فكيف عبَّر عنه بقوله :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ ؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أنه تعالى، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل، بيَّن مخالفته للأوَّل، وأنه لا إثم عيه؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل.
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا، فذلك يصعب على الموصى لهم، ويوهم أن فيه إثماً، فأزال ذلك الوهم، فقال :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ ﴾.
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيَّته، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ؛ بقوله :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ ﴾.
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه قال : انا الذي أغفر للذُّنوب، ثم أرحم المذنب؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى.
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم، متى أصلحت وصيَّته؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له، ويرحمه بفضله.
وثالثها : أن المصلح، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال، كان الأولى تركها، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح، فإنه لا يؤاخذه بها؛لأنه غفور رحيم.
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة
قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى : والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت؛ لقوله - ﷺ - وقد سئل : أيُّ الصدقة أفضل؟ فقال :« أن تَصَّدَّقَ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ »