﴿ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق ﴾ [ الشعراء : ٦٣ ]، أي :« فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ »، وقوله :﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] إلى قوله :﴿ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ]، أي :« فَحَلَقَ ».
قال القفَّال - رحمه الله - : قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] يدلُّ على وجُوُب الصَّوم.
قال ابن الخطيب : ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ : هذا ضعيفٌ من وجهين :
الأول : أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] على العُمُوم، لزمنا الإضمارُ في قوله :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرهان لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص، وبيْن الإضمار، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى.
الثَّاني : أنَّ ظاهر قَوله تعالى :« فَلْيَصُمْهُ » يقتضي الوُجوب عَيْناً، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ على ظاهره أَوْ لاَ، وإذا كان كذلك، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ.
الوجه الثاني : ذكره الواحدي في « البَسِيطِ » قال : وقَال القاضي : إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار، لا بالمَرَض والسَّفر، فلمَا أوجب اللَّهُ القَضَاءَ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار.
قال ابنُ الخطيب وهذا ساقط؛ لأنه لم يَقُل : فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى، بل قال :« فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار.
الوجه الثالث : رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة : أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - ﷺ - فَقَال : يا رَسُولَ اللَّهِ، هَل أَصُوم في السَّفر؟ قال « إِنْ شِئْتَ صُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ »
ولقائل أنْ يقول : هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه، فالاعتماد على قوله تعالى :﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره
اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر؟
فقال أنسُ بنُ مالك، وعثمان بنُ أبي أوفى : الصَّوم أفضلُ، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والثوريُّ، وأبو يوسُفَ، ومحمَّد.
وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب، والشَّعبيُّ، والاوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، الفطرُ أفضلُ.
وقالت طائفةٌ : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجَّة الأوَّلين : قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وقوله ﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾.
حجَّة الفرقة الثانية : قوله - ﷺ - « إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ » وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ »