فصل في المراد بالفدية ومقدارها
« الفِدْيةُ » في معنى الجزاء، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عن دأبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ، وعن الشَّافعي « مُدٌ » بمُدِّ النبي -
ﷺ - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد، وهو قول فقهاء الحجاز.
وقال بعضُ فقهاء العراق : نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر.
وقال بعض الفقهاء : ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره.
وقال ابنُ عباسٍ : يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره.
فصل في احتجاج الجبائي بالآية
احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ فقال : الضميرُ في قوله :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ﴾ عائدٌ إلى الصَّوم، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم.
فإنْ قيل : لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية؟
قُلنا : لا يَصحُّ لوجهين :
أحدهما : أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ، فلا يَعُود الضَّمير إليها.
والثاني : أنَّ الضَّمير مُذَكَّر، والفدية مؤنَّثة.
فإنْ قيل : هذه الآية مسنوخةٌ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها؟!
قلنا : إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل، والحقائقُ لا تتغيَّر.
قوله :﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾ فيه ثلاثة أوجُهٍ :
أحدها : قال مجاهد وعطاء، وطاوس : أي : زاد على مسكين واحدٍ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين، فأكثر.
الثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
الثالث : قاله الزُّهريُّ : من صام مع الفدية، فهو خير له.
قوله :« وَأَنْ تَصُومُوا » في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، تقديره :« صَوْمُكُمْ »، و « خَيْرٌ » خَبَرُهُ، ونظيره :﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ].
وقوله :« إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ » شرطٌ حذف جوابه، تقديره : فالصَّوم خيرٌ لكم، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصاراً، أي : إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً، أي : تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم.
من ذهب إلى النَّسخ، قال : معناه : الصَّوم خيرٌ له من الفدية، وقيل : هذا في الشَّيخ الكبير، لو تكلَّف الصَّوم، وإن شقَّ عليه، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي.
وقيل : هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره، أعني : المريض، والمسافر، والذين يطيقونه.
قال ابن الخطيب : وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ﴾ أن يكون حكمه مختصّاً بهم، لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ، فوجب الحكم بذلك، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان، إلاَّ لثلاثةٍ :
أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة : هو الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما يفطران، ويقضيان، وعليهما مع القضاء الفدية، وهو قول ابن عمر، وابن عبَّاس، وبه قال مجاهد، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد.
وقال قومٌ : لا فدية عليهما، وبه قال الحسن، وعطاء، والنَّخعيُّ، والزُّهريُّ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وأصحاب الرَّأي.
الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة : وهو المريض والمسافر.
الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء : الشَّيخ الكبير، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه.