وسادسها : أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب.
وسابعها : قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى :« مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي »
وقال الجمهور : الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة، واحتجُّوا بأدلَّة :
الأول : هذه الآية الكريمة.
الثاني : قوله تعالى :﴿ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] الثالث : قوله ﴿ فلولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٤٣ ] بين أنه تعالى، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب، وقال - عليه السَّلام - « لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :« الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ » وقرأ « وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »، فقوله « الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ » معناه أنه مُعْظَم العبادة، وأفضل العبادة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام :« الحَجُّ عَرَفة »، أي : الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم.
الرابع : قوله :﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ] وقال :﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ ﴾ [ الفرقان : ٧٧ ] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ، فمن أبطل الدعاء، فقد أنكَرَ القرآن، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ.
والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة؛ فنقُول : إقدامُ الإنسان على الدعاء، إن كان معلوم الوقوع، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء، وإن كان معلوم العدم، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة.
والجوابُ عن الثَّانية : علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رضي الله عنهم - رسُولَ الله - ﷺ - فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال :« بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ » فقالوا : فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ :« اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ » فانظُر إلى لطائف هذا الحديث، فإنه - ﷺ - علَّقهم بين أمرين، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ، فقال :« كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ، ولا ينقصه التَّرك.
والجوابُ عن الثالث : أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة.