فصل في اختلافهم في المراد من قوله ﴿ الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
اختلفُوا في المراد بقوله :﴿ الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً.
وقيل : قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى :﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا ﴾ [ الأنفال : ٦١ ].
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل، ثُمَّ في آخر الأمر، أذن في قتالهم، سواءٌ قاتلوا، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب : أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق، والمجاملة، فلمَّا قوي الإسلام، وكَثُر الجمع، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات، وتكرُّرها عليهم، وحصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
قوله تعالى :﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] « حيث » منصوبٌ بقوله :« اقْتُلُوهُم » و « ثِقِفْتُمُوهُم » في محلِّ خفضٍ بالظرف، و « ثَقِفْتُمُوهُمْ » أي : ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه :« رَجُلٌ ثَقِيفٌ » : أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال [ الوافر ]
٩٦٨ - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي | فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ |
٩٦٩ - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا | وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ |
قال القرطبي : وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير.
قوله :« مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في « حَيْثُ » بجَرِّها ب « مِنْ » كما جُرَّت ب « اليَاءِ » و « في » وبإضافة « لَدَى » إليها، و « أَخْرَجُوكُمْ » في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر « لِلْفِتْنَة » ولا « لِلْقَتْلِ » - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطابُ للنَّبيِّ - ﷺ وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم، حيث كانوا في الحلِّ، أو الحرم، وفي الشَّهر الحرام ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال : أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم، ففي الآية الأولى : أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة، وفي هذه الآية.