﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [ الفتح : ١٦ ] قال نافع : جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال : يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾ [ النساء : ٩٣ ] قال ألم يقُل الله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؟ قال : قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - ﷺ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه، إما يقتُلُونه، أو يُعَذِّبونه، حى كثُر الإسلام، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم، حتَّى تكُون فتنَة، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله.
وعن سعيد بن جبير، قال : قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ.

فصل في معاني الفتنة في القرآن


قال أبو العبَّاس المُقِري : ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ :
الأول : الفتنة : الكُفر؛ قال تعالى :﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة ﴾ [ آل عمران : ٧ ] يعني : طلب الكُفْر.
الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى :﴿ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ ﴾ [ المائدة : ٤٩ ].
الثالث : الفتنة : البلاء؛ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٣ ].
الرابع : الفتنةُ : الإحْرَاقُ؛ قال تعالى ﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين ﴾ [ البروج : ١٠ ]، أي : حَرَّقُوهم؛ ومثله ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ].
الخامس : الفتنة الاعتذارُ قال تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
السادس : الفتنة : القَتل، قال تعالى :﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا ﴾ [ النساء : ١٠١ ]، أي : يَقْتُلُوكم.
السابع : الفتنَة : العذَابُ؛ قال تعالى :﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله ﴾ [ العنكبوت : ١٠ ].
قوله « فَإِن انْتَهوا »، أي : عن الكُفر وأسلَمُوا، « فَلاَ عُدوَانَ » أي : فلا سبيل ﴿ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾ قاله ابن عبَّاس، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [ القصص : ٢٨ ]، أي : فلا سبيل عليَّ، وقال أهلُ المعاني العدوان : الظُّلم، أي : فإنْ أسْلَمُوا، فلا نهب، ولا أسر، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً، وهو في نفسه حقٌّ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز، والمقابلة؛ لقوله ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ]، و ﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾ [ التوبة : ٧٩ ].
وقيل : معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال، كنتم أنْتُم ظالمينَ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم.
قوله :﴿ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾ في محلِّ رفع خبر « لا » التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً، تقديرُه : لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ ﴿ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾ بدلاً على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.


الصفحة التالية
Icon