وأما على الثَّاني : فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه.
قال الزَّجَاج : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص والمماثلة، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة، وهو قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾.
وأما على القول الثالث : فقوله « والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » يعني : حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر، وهما مثلان، والقِصاصُ هو المثلُ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر، والفِتنة، والقِتال، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا، فقوله :« والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » متَّصلٌ بما قبله.
وقيل : هو مقطوعٌ منه، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام : أن من انتهك حُرمتك، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك، ثم نُسِخً ذلك بالقتال.
وقالت طائفةٌ : ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه.
وقوله ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ يجوزُ في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةً، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً.
والثاني : أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم نظيره.
قوله :﴿ بِمِثْلِ مَا اعتدى ﴾ في الباء قولان :
أحدهما : أن تكون غير زائدةٍ، بل تكون معلِّقةً ب « اعْتَدُوا » والمعنى : بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه.
والثاني : أنها زائدةٌ، أي : مثل ما اعَْدى به؛ فتكون : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف، كما هو مذهبُ سيبويه - رحمه الله تعالى - أي : فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه، و « مَا » يجوزُ أن تكوَ مصدريةً، فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً، أي : بمثل ما اعتدى عليكُم به، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء.
فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً
قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في المكافأة، هل تُسمَّى عدواناً، أم لا؟ فمن قال : ليس في القرآن مجازٌ، قال : المقابلة عدوانٌ، وهو عدوانٌ مباحٌ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله :[ الطويل ]
٧١٩ - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً....................................
وقولَهُ :[ الرجز ]
٩٧٢ - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي... وقوله :[ الرجز ]
٩٧٣ - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى... ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به.
ومن قال : في القُرآن مجازٌ : سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ :[ الوافر ]