والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المُعْجزات، أو تحريف ما في التوراة.

فصل في المقصود بأمر الله


قوله :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾ يحتمل أمرين :
الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجوابح لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى :﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله ﴾ [ الجاثية : ١٤ ] وقوله :﴿ واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً ﴾ [ المزمل : ١٠ ] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام، بل علّقه بغاية فقال ﴿ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾.
وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن.
وثانيه : أنه ] قوة الرسول صولات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.
وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، أنه الأمر بالقتال؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :
إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية، وتحمل الذل والصَّغار، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ].
ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله ﷺ بقتال حتى نزل جبريل ﷺ بقوله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾ [ الحج : ٣٩ ] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبدالله بن جَحْش ب « بطن نخل »، وبعده غزوة « بدر ».
فإن قيل : كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله :﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ]. وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً، فكذا هاهنا.
فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً، ويحلّ محل قوله تعالى :« فَاعفُوا واصْفَحُوا » إلى أن أنسخه عنكم.
فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعَفوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً.
قال القرطبي رحمه الله :[ قال أبو عبيدة :] كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.
قال ابن عطية :[ الحكم ] بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن مُعَاندات اليهود إنما كانت ب « بالمدينة ».
قال القرطبي :« وهو الصحيح ».
[ التفسير الثاني : العفو والصفح ] أنه حسن الاستدعاء، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق والتشدّد فيه، وهذا لا يجوز نسخه.
وقوله :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ تحذير لهم بالوعيد، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.


الصفحة التالية
Icon