[ الإسراء : ٨٨ ] وقال :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ] وقال في موضع آخر :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها.
والمشهور : أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ : التَّهْلُكَةُ : ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ : ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل : هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل : هي ما تضضُرُّ عاقبته.

فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة


اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة.
فقال قومٌ : إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة.
وقال آخرون : إنَّه راجعٌ إلى غيرها، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً :
أحدها : قال ابن عبَّاس، وحذيفة، وعطاءٌ، وعكرمةٌ، ومجاهدٌ، والجمهور، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رضي الله عنهم - ولم يذْكُروا غيره : ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل : إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ، والضَّرَر عن نفسِكَ.
وثانيها : أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول، والمشروب، والملبوسِ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ].
وقيل : الإلقاءُ في التَّهْلُكَة : هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ، وقد فعل ذلك قومٌ، فانقطعوا في الطَّريق.
وأما القائلون : بأنَّ المراد منه غير النَّفقة، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أن يخلُّوا بالجهاد، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار.
ثانيها : لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ، فليس له الإقدام عليه، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال في هذا : هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ. وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال : هذا القتلُ غير محرمٍ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ.
الول : روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ : نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله ﷺ فنصرناه وشهدنا المشاهد، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا، وأموالنا، ومصالحنا؛ فنزلت الآية، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد. فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية، فتوفِّي هناك، ودُفن في أصل سور القسطنطينية، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به.


الصفحة التالية
Icon