فصل
قال القرطبيُّ :« الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً، فإن كان كافراً، لم يَجُزْ قِتَالُه، ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] ولو سأل الكافر جعلاً، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق، جاز دفعه، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإنّ الدِّين أسمح، وأمّا بذل الجعل، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما : ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال، فيعدُّ هذا من النَّفقة ».
فصل
العدوُّ الحاصر : لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه، واستيطانه، لقوته وكثرته، أولا، فإن كان الأول، حلَّ المحصر مكانه من ساعته، وإن كان الثاني، فهو مما يرجى زواله، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ.
وقال أشهب : من حصر عن الحج بعدو، فلا يقطع التَّلبية، حتى يروح الناس إلى عرفة.
فصل في الإحصار
الإحصار : إنما يكون عن البيت، أو عن عرفة. فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة، ، ونحوها، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم، وإذا إحصر عن طريق، وله طريق غيرها، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً، [ فإن لم تكن أمناً ]، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله. فهو محصر
فصل في قضاء المحصر
إذا أُحصر، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض، أو النَّذر، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار، وإن كان ذلك في العام الثاني : وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً.
قوله :﴿ فَمَا استيسر ﴾، « مَا » موصولة، بمعنى : الذي، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها في محل نصب، أي : فليُهدِ، أو فلينحر، وهذا مذهب ثعلب.
والثاني : ويعزى للأخفش : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر.
والثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب، واستصعب، وغني واستغنى، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعَّل نحو : تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ، وقد تقدَّم ذلك.