فإن قيل : حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ.
فالجوابُ : هذا قياسٌ في مقابلة النص.
القولُ الثاني : قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر : المرادُ بقوله تعالى :﴿ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف، وإغَاثَةِ الملهوف، وإطعام الجَائِعِ، واعترضَ عليه القاضي : بأَنّ هذا واجبٌ، أو مَنْدُوبٌ، ولا يُقالُ في مِثله : لا جَنَاحَ عَليكُم فيه، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ.
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠١ ] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] والطوافُ ركنٌ في الحج، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ ﴾ أنّ الأمر ليس كذلك.

فصل


اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة، لم تَكُنْ مباحةً، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ، كانت مُبَاحةً، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى :﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ البينة : ٥ ]، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ.
قوله :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ ﴾ العامُ فيها جَوَابُها، وهو « فَاذْكُرُوا » قال أبُوا البقاءِ رحمه الله « ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ ».
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه : أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة.
قوله :« مِنْ عَرَفَاتٍ » مُتَعلِّقٌ ب « أَفَضْتُم » والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ : الصبُّ، يُقالُ، فَاضَ الإِناءُ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه. ورجلٌ فيَّاضٌ، أي : مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ :[ الطويل ]
٩٩٨ - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ
وحديثٌ مستقيضٌ، أي شائِعٌ.
ويقالُ : فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً. والهَمْزَةُ في « أَفَضْتُم » فيها وجهان :
أحدُهما : أنها للتعدية، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً، تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مَذْهب الزجاج، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ، وقَدَّره الزجاجُ فقال : معناه : دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ : الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ، ومنه يُقالُ : أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر، ومعناه : جمعها، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ، تَفَرَّق، والإِفَاضَةُ في الحديث، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon