استشكل الناس مجي « ثُمَّ » هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة، وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء ب « ثُمَّ » التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ الترتيب في الذِّكر، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله، إذا فعلت الإفاضة.
ثانيها : أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله :﴿ واتقون ياأولي الألباب ﴾ ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو بعيدٌ.
ثالثها : أن تكون « ثُمَّ » بمعنى الواو، قال بعض النُّحَاةِ : فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول.
قال بعضهم : وهي نظير قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [ البلد : ١٢، ١٣ ] إلى قوله :﴿ ثُّمَّ كّانَ ﴾ [ البلد : ١٧ ]، أي : كان مع هذا من المؤمنين، وفائدة « ثُمَّ » ههنا : تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر المخبر عنه [ عن ذلك المخبر عنه ].
رابعها : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس، قاله الضَّحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن، فتكون « ثُمَّ » على بابها، قال الزمخشريُّ :« فإنْ قلتَ : كيف موقعُ » ثُمَّ « ؟ قلتُ : نحو موقِعها في قولك : أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ » تأتي ب « ثُمَّ » ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبُعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ ﴾ لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ « قال أبو حيَّان :» وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ، وخاصل ما ذكر أن « ثُمَّ » تسلب الترتيب، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء « ثُمَّ » لتفاوت ما بينهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل « ثُمَّ » قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين، وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل.
و « مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ ب « أَفِيضُوا »، و « مِنْ » لابتداء الغاية، و « حَيْثُ » هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ، وقال القفَّال :« هي هنا لزمان الإفاضة » وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش، وتقدَّم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء « ثُم » هنا، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.