﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ.
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام - : إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم، ومعنى ذلك على وجوهٍ.
أحدها : أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب.
الثاني : لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ.
والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ].
قوله تعالى :﴿ فِي الآخرة حَسَنَةً ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ] يجوز في الجارِّ وجهان.
أحدهما : أن يتعلَّق ب « آتنا » كالذي قبله.
والثاني : أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من « حَسَنَةٌ » ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً.
قوله :﴿ وَفِي الآخرة حَسَنَةً ﴾ هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف « في الآخِرةِ » عطفٌ على « في الدُّنْيَا » بإعادةِ العاملِ، و « حَسَنَةٌ » عطفٌ على « حَسَنَةً »، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول :« أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً »، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم : أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو :« أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً »، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل ﴾ [ النساء : ٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ].

فصل


ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً :
قال عليٌّ بن أبي طالب : في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - ﷺ - ؛ أنه قال : الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.
وقال الحسن : في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة : الجَنَّة والنظر.
روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ « أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال :» رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ « فقال النبي - ﷺ - :» ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا «، فقال بَعْضُ الصحابة : بَلَى يا رسُول الله إنّه قال :» ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة «، فقال رسول الله - ﷺ - :» إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً «


الصفحة التالية
Icon