قال ابنُ عبَّاسٍ : أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ، فإذا لم يقبْل، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم، قال هذا : وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ : اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ.
وقيل : نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - ﷺ - ليلةً خُروجهِ لى الغار.
قوله تعالى :« مَنْ يَشْرِي » : في « مَنْ » الوجهانِ المتقدِّمان في « مَن » الأُولَى، ومعنى يَشْرى : يَبيعُ؛ قال تعالى :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ]، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة، وقال [ مجزوء الكامل ]

١٠٢٠ - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قال القُرْطبيُّ : بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ. فالمعنى : يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء.
قوله :« ابتغاءَ » منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرْمِي، والمُبْرِّد، والرِّيَاشي، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ.
و « مَرْضَاةً » مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو : مَغْزى، ومَرْمى. قال القُرطبِيُّ : والمَرْضَاةُ، الرِّضَا، تقولُ : رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ، وذلك لِوَجْهَين :
أحدهما : أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك :[ الرجز ]
١٠٢١ - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه.
والثاني : أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ « مَرْضَات ».
وفي قوله :« بِالْعِبَادِ » خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ « رَؤوفٌ بِهِ » أَوْ « بِهِمْ » وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ « العِبَادِ » يُؤْذِنُ بالتشرِيف، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك.

فصل


إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ، والصيام، والحج والجهاد، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ، فكأَنَّهُ كالبائِع، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال :﴿ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة ﴾ [ التوبة : ١١١ ] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً، فقال :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾


الصفحة التالية
Icon