﴿ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟
فالجوابُ : أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ.
قوله تعالى :« فَإِنْ زَلَلْتُمْ » الجمهور على « زَلَلْتُمْ » : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسر، فهما لغتان؛ كضلَلت، وضلِلت. و « ما » في « مِنْ بعدِما » مصدريَّةٌ، « مِنْ » بالبتداء الغاية، وهي متعلِّقةٌ ب « زَلَلْتُمْ ».
معنى « زَلَلْتُمْ » أي : ضللتم، وقيل : ملتم، يقال : زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً، إذا دحضت، وأصل الزلل في القدم، واستعماله في الاعتقادات.
فصل
يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السَّبت، ولحم الإبل، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات ﴾ يعني محمَّداً وشرائعه، ﴿ فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ في كلِّ أفعاله، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك، فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.
فإن قيل : إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنَّهم سيزلون، ولكنه تعالى قدَّم ذلك، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم.
فصل
قوله :﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات ﴾ يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة.
أمَّا العقليَّة، فالعلم بحدوث العالم، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات، قادراً على كل الممكنات، غنيّاً عن كل الحاجات.
وأمَّا السمعيَّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة.
فصل
قال القرطبي : دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع.
فصل
قال القاضي : دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان، وإزاحة العلَّة، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات، لا حوصل اليقين من المكلف.
وقوله :« عَزِيزٌ » يدلُّ على الزَّجر، والتهديد، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة، وهو تعالى قادر على كل الممكنات، فكأنَّه تعالى قال :« فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات » فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم، لا يمنعه عنكم مانع، وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله :« حَكِيمٌ » فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة، وأقرب للرحمة، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات.