الثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة، والشقاوة، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب.
الوجه الثالث : أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب، والعذاب، فحذف ما يأتي به، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ، كقوله تعالى :﴿ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد ﴾ [ النحل : ٢٦ ] وقوله :﴿ فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾ [ الحشر : ٢ ] أو قوله :﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [ النحل : ٢٦ ] وآتاهم العذاب، كالتفسير لقوله :﴿ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [ النحل : ٢٦ ].
الوجه الرابع : أن تكون « فِي » بمعنى « البَاءِ »، وتقديره : هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ.
الوجه الخامس : قال ابن الخطيب : وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً ﴾ نزلت في اليهود، فعلى هذا قوله :﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يكون خطاباً مع اليهود، [ وحينئذٍ يكون قوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة ﴾ حكاية عن اليهود ]، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى ﷺ مثل ذلك، فقالوا :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ﴾ [ البقرة : ٥٥ ].
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب، وكانوا يقولون : إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال.
فإن قيل : فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى :﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور ﴾ ؟
قلنا : الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد، فقال :﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور ﴾.
قال ابن تيميَّة : وهذا من أعظم الافتراء على الله، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم ﴾ أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين، فيقول للمؤمنين :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ﴾، ويقول لأولئك :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، و ﴿ ياأهل الكتاب ﴾، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن.