قوله :﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله ﴾ « مَنْ » شرطية في محلِّ رفع بالابتداء، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين : مبدَّل وبدل، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل، وحذف البدل، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى، وقد صرَّح به في قوله :﴿ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] فكفراً هو المحذوف هنا. وقد تقدَّم عند قوله تعالى :﴿ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] أن « بَدَّل » يتعدَّى لاثنين : أحدهما بنفسه، وهو البدل، وهو الذي يكون موجوداً، وغلى الآخر بحرف الجر، وهو المبدَّل، وهو الذي يكون متروكا، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى، فالتقدير هنا :« وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً »، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على « كُفْراً » فيكون التقدير :« وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ » ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله :﴿ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾. وكذلك قوله تعالى :﴿ فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] تقديره : بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديره :« سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ » ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله :« إلا مَنْ تَابَ ».
وقرئ :« يُبْدِلُ » مخففاً، و « مِنْ » لابتداء الغاية و « مَا » مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى، أي : شديد العقاب له، أو لأنَّ « أَلْ » نابت منابه عند الكوفيين.
قال القرطبيُّ : وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام -، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى.
فصل
فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان :
فمن قال : المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - ﷺ - قال : تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم، فجعلوها أسباباً لضلالهم، كقوله :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ].
ومن قال : المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال : تبديلها تحريفها، وإدخالها الشُّبهة فيها.
والقول الثاني : أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة، والأمن، والكفاية، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.
وقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ ﴾، أي : من بعد التمكُّن من معرفتها، أو من بعدما عرفها؛ كقوله :﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٥ ] إن فسرنا النعمة بالقول الأول، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر، ويقبح الكفر، فلهذا قال :﴿ ﴾.
وقال الطَّبريُّ : النعمة هنا الإسلام.
وقال الواحديُّ - رحمه الله - : وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له.
قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب « دَلاَئِل الإعْجَازِ » : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك، ثم قال الواحديُّ : والعقاب عذابٌ يعقب الجرم.
قال القرطبيُّ : مأخوذٌ من العقب، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب [ وعُقْبَة القِدْر ].