ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة :« يُخَافَا » بضم الياءِ، أي : يعلم ذلك منهما، يعني : يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله :« فَإِنْ خِفْتُمْ » فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل :« فإن خافا ». واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ.
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود : لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة.
وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ [ النساء : ٤ ] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾ [ النساء : ٩٢ ]، أي : لكن إن كان خطأً ﴿ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ ﴾ [ النساء : ٩٢ ].

فصل


ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة، فنقول : الأقسام الممكنة فيه أربعة :
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما، أو يكون الخوف من قبلهما معاً، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية : أن جميلة بنت عبدالله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ، فأتت رسول الله - ﷺ -، وقالت : فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام. فقال ثابت : يا رسُول الله، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها :« مَا تَقُولِين؟ » قالت : نعم وأزيده فقال ﷺ :« لا، حديقته فقط » ثم قال لثابتٍ :« خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا » ففعل، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام. وفي « سُنَنِ أَبِي دَاوُد » : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري.


الصفحة التالية
Icon