قال المبرِّد : والفصال، يقال : فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه، فقد انفصلت منه، فبينهما فصالٌ، نحو القتال والضِّراب، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال : فصل من البلد، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ]، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ وجب حمل هذه الآية على غير ذلك، حتى لا يلزم التَّكرار، واختلفوا في ذلك : فمنهم من قال : إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس.
قوله تعالى :﴿ عَن تَرَاضٍ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل « فِصَالاً » فهو في محلِّ نصبٍ، أي : فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ : صادراً عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً.
والثاني : أنه متعلقٌ ب « أَرَادَا »، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف. والفصال، والفصل : الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه.
و « عَنْ » للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ.
و « تَرَاضٍ » مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله : تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل ب « أدْلٍ » جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً.
قوله تعالى :﴿ مِّنْهُمَا ﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل « تَرَاضٍ »، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي : تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، و « مِنْ » لابتداء الغاية.
وقوله :﴿ وَتَشَاوُرٍ ﴾ [ حذفت « مِنْهُمَا » لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير : وتشاور منهما ]، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة.
قوله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره : ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل.

فصل في التشاور


التشاور في اللُّغة : استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته.
وقال أبو زيدٍ : شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له : الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال : شوَّرته فتشوَّر، أي : خجلته، والشَّارة : هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره.

فصل في مدة الفطام


دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس، ثم بتقدير توافقهما : اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام.


الصفحة التالية
Icon