وسادسها : يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال، فقيل لهم : هذا سؤالٌ فاسدٌ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل، فقال الطبيب : كل في اليومين مرَّتين، ومعناه، كل ما شئت، ولكن بهذا الشرط.

فصل


اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق، فقدَّم الوالدين، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من العدم إلى الوجود، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ.
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر « الْوَالِدَيْنِ » ثمَّ عطف عليه « الأَقْرَبِينَ » والعاطف يقتضي المغايرة، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على « الأَقْربين » حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ.
فالجواب : أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] فعطف القرآن على السبع المثاني، وهي من القرآن، وقال - عليه السّلام - « أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي... » فعطف « النَّبِيِّين » على قوله :« أَنَا » وهو من النبيين، وذلك شائعٌ في لسان العرب، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب، والمكاسب، وأشرف على الضياع، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يحتاج، ويفتقر، فهذا أصحُّ تركيبٍ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل، أردفه بالاجمال، فقال :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ ﴾ والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض، ولا في السَّماء.
و « ما » هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه :« وما يفعلوا » بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه، أي : وما يفعل الناس.

فصل في المراد بالخير


قال أكثر العلماء : المراد ب « الخَيْر » هو المال؛ لقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٨ ]، وقال :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية ﴾


الصفحة التالية
Icon