قال : لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي أولى.
الثاني : مذهب الأخفش أنَّ « أَنْ » زائدةٌ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل : ما لنا غير مقاتلين، كقوله :﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾ [ نوح : ١٣ ] ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ﴾ [ المائدة : ٨٤ ] وقول العرب :« ما لك قائماً »، وقول الله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ.
الثالث :- وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله :« أن لا نقاتلَ ». قال :« تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك : إياك أن تتكلَّم، أي : إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو » وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قوله : إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم، بل « إياك » ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير، و « أَنْ تتكلمَ » في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذر التكلم.
قوله :﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ﴾ هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها :« نقاتلْ »، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول.
وقرأ عمرو بن عبيد :« أَخْرَجَنا » على النباء للفاعل. وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى، أي : وقد أخرجنا الله بذنوبنا.
والثاني : أنه ضمير العدوّ.
﴿ وَأَبْنَآئِنَا ﴾ عطفٌ على « ديارنا » أي : ومن أبنائنا، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره :« ومن بين أبنائنا » كذا قدره أبو البقاء. وقيل : إنَّ هذا على القلب، والأصل : وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ ﴾، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
قوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل « تَوَلَّوا » فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت :« قام القومُ لا رجالاً » لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ « قليلاً » في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله :« منهم »، فقرب من الاختصاص بذلك.
وقرأ أُبي :« إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم » وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول :« قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً » بالرفع والنصب، فالرفع على جعل « كان » تامةً، و « زيدٌ » فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و « زيداً » خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى : قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني « قام القوم إلا زيداً » و « قاموا إلا أن يكون زيداً »، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه.