والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى :
أنَّ الترجِّي في المحبوبات، والإشفاقَ في المَكروهات.
و « عَسَى » من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه. وقيل : كلُّ « عَسَى » في القرآن للتحقيق، يعنُون الوقوعَ، إِلاَّ قوله تعالى :﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ﴾ [ التحريم : ٥ ] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ، بل تامةٌ، لأنها أُسْندت إلى « أَنْ »، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحُوفيُّ أَنَّ :« أَنْ تَكْرَهُوا » في محلِّ نصبٍ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله :﴿ وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً.
والثاني : أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل « شَيْئاً » وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً، تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله :﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤ ] فجعل « وَلَهَا كِتَابٌ » صفةً لقريةٍ، وقل : وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله :﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠٨ ] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، كما يُقالُ في الحالِ :« جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ ». وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا، والزمخشريُّ هناك، هو رأيُ ابن جِنّي، وسائرُ النحاة يُخالفونه.
فصل في بيان الخيرية في الغزو
قوله :﴿ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين : إمَّا الظفرُ والغنيمةُ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ ﴿ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً ﴾ يعني القُعُود عن الغزو، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة، والأَجرِ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى.
قال القُرطبي : قِيْلَ « عَسَى » بمعنى « قَدْ » وقال الأَصمُّ : و « عَسَى » مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى :﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً ﴾ [ التحريم : ٥ ]
وقال أبو عبيدة : عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ، والمعنى : عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم، من أَنَّكُمْ تغلبون، وتظفرون وتغنمون، وتُؤجرون، ومَنْ مات، مات شهيداً. و « الشَّرُّ » هو السُّوء أصله : من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال : شَرَرْتُ اللحم، والثوب : إذا بسطته، ليجف؛ ومنه قوله :[ الوافر ]
١٠٥٣ - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ... والشَّررُ : هو اللَّهب لانبساطه. فعلى هذا « الشَّرُّ » انبساطُ الاشياء الضارةِ، وقوله ﴿ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك، فهي كقوله في جواب الملائكة :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٣٠ ].