وقيل : المراد إدريس ﷺ بقوله تعالى :﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٧ ] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ.
فإن قيل : المفهومُ من قوله ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ هو المفهوم من قوله :« تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ »، فما فائدة التكرير؟
فالجواب : أَنَّ قوله :﴿ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات.
فإن قيل : قوله :﴿ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك ﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله ﴾ شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً.
فالجواب : أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله :« دَرَجَات » إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك.
قوله :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ﴾. فيه سؤالان :
السُّؤال الأَوَّل : قال في أوَّل الآية :﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال :﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ ]، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ﴾ فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى.
والجوابُ : أَنَّ قوله :﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله ﴾ أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال : منهم من كلمنا، ولذلك قال :﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما ﴾ فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة.
وأَمَّا قوله ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ﴾ فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله « وآتَيْنَا » ضمير التَّعظيم، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء.
السُّؤال الثاني : لم خصَّ موسى، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟
والجواب : سبب التَّخصيص : أنَّ معجزاتهما أبهر، وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما.
السُّؤال الثالث : تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره، وليس الأمر كذلك، فإن موسى ﷺ أوتي أقوى منها، أو مساوٍ.


الصفحة التالية
Icon