وقوله :« فِيهِ » على قراءةِ خفضِ « قِتَالٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل « قِتَالٍ ».
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً.
وقال أبو البقاء : كما يتعلَّقُ ب « قِتَالٍ » ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل.

فصل


والضميرُ في « يَسْأَلُونك » قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - ﷺ - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] فوجب أن تكون هذه كذلك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - ﷺ - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنه ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ ﴾ فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في « الشَّهْرِ الحرام » قيل : للعهد، وهو رجبٌ، وقيل : للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ.
قوله :« قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ » جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى : القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ :
إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله :« فيه » صفةً له.
وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره.
فإِنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى :﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥-١٦ ] لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ [ الشرح : ٥-٦ ].
فقال أبو البقاء :« ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا » قِتَالٌ « الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ.


الصفحة التالية
Icon