[ الملك : ٢ ].
فإن قيل : لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله ﴿ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله ﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وقال ﴿ الذي خَلَقَ الموت والحياة ﴾ [ الملك : ٢ ]، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى ﴿ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾ [ الشعراء : ٨١ ].
فالجواب : أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا.
﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي ﴾ مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن « أَنَا » بالجملة الفعلية، وعن « رَبّي » بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.
و « أَنَا » : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه « أَنَ » والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل : أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك :[ المتقارب ]
١١٨٩- وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا | فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا |
١١٩٠- أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي | حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما |
وفيه لغاتٌ :« أَنا وأَنْ » - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و « آن » ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار « أانَ »، قيل : إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا : أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال :« هكذا فَرْدِي أَنَهْ » ؛ وقال آخر :[ الرجز ]
١١٩١- إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ | مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ |
فصل
قال أكثرُ المفسِّرين : لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال : أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً.
قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ - أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر : أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها.