هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو « أَوْ » وهي هنا للتفضيل، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين « أَوَ » بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.
وفي قوله :« كَالَّذِي » أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى :﴿ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٤-٨٥ ] ثم قال :﴿ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٦-٨٧ ]. فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر :[ الوافر ]

١١٩٣- مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية :
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله :[ الطويل ]
١١٩٤- تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين :[ الوافر ]
١١٩٥- أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه « وَلاَ بِحَقَلَّد »، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه « وَلاَ مُتَدَارِكٍ »، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ :« أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي »، فحذف لدلالة « أَلَمْ تَرَ » عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ]، وقول الآخر :[ السريع أو الرجز ]
١١٩٦- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ... والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها : معادلتها في الفاعلية ب « مِثْل » في قوله :[ الطويل ]
١١٩٧- وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [ الكلام ] في اشتقاق القرية.
قوله :« وهي خَاوِيَةٌ » هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون حالاً من فاعل « مَرَّ » والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.


الصفحة التالية
Icon