والثاني : أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاء رحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من « هذه »، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين : فالعاملُ فيها « يُحْيِي »، و « بعد » أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة : مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي : أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.
قوله :﴿ مِئَةَ عَامٍ ﴾ قال أبو البقاء رحمه الله :« مائَة عامٍ » : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره :« فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام » ويدلُّ على ذلك قوله :« كَمْ لَبِثْتَ »، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.
و « مِئة » عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم :« أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ »، أي : صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على « مِئَات »، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل :[ الطويل ]
١٢٠٠- ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا | رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ |
والعام : مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير : عويم، وفي التكسير :« أَعْوَام ».
وقال النقَّاش :« هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم : هو السبح؛ وقال تعالى :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال ».
فإن قيل : ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل.
فالجواب : أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ.
قوله :« ثُمَ بَعَثَهُ »، أي : أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله : من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - « ثُمَّ بَعَثَهُ » ولم يقل : ثمَّ أحياه؟
فالجواب : أن قوله :« بَعَثَهُ » يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً : حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال : ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد.
قوله :« كَمْ » منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره : كم يوماً، أو وقتاً.