﴿ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً « رَبِّ » ثُمَّ دعا فقال :﴿ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى ﴾ ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور.
قوله :﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ في هذه الواوِ وجهان :
أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره؛ كقول القائل :[ الوافر ]

١٢١١- أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ]، المعنى : أنتم خيرُ، وقد شرحنا.
والثاني : أنها واوُ الحالِ، دخلت عليها ألفُ التقرير، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانت كذلك، استدعَتْ ناصباً، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ « أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ »، فالهمزةُ في الحقيقة، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهرُ الأَوَّلُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى.
وقوله :﴿ بلى ﴾ جوابٌ للجملة المنفيَّة، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ [ البقرة : ٦ ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ.
قوله :﴿ لِّيَطْمَئِنَّ ﴾ اللامُ لامُ كَيْ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها، بإضمار « أَنْ »، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد « لكنْ » تقديرُه « ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر، قبل » لكنْ « ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ، وما سألتُ غير مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً.
قال السُّدِّيُّ، وابن جبير :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ بأَنَّكَ خليلي ﴿ قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ بالخُلَّةِ.
والطُّمأنينةُ : السكونُ، وهي مصدرُ »
اطمأنَّ « بوزن : اقْشَعَرَّ، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياسُ » اطْمَأنَّ « أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان. واختلف في » اطْمَأَنَّ « هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رحمه الله - أنه مقلوبٌ من » طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه : افْلَعَلَّ بدليل قولهم : طامنتُه، فتطامَنَ. ومذهبُ الجرمي : أنه غيرُ مقلوب، وكأَنَّه يقول : إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال : والهَمزةُ في » لِيَطْمَئِنَّ « أصلٌ، ووزنه يفعَلِلُّ، ولذلك جاء ﴿ فَإِذَا اطمأننتم ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] مثل :» اقْشَعْرَرْتُمْ «. انتهى. فوزنه على الأصل دونَ القلب، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في » جَبَذَ، وجَذَبَ، قالوا : ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال.


الصفحة التالية
Icon