واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ :
الأول : أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور، وقطَّعها أجزاءً، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع.
الثاني : أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير.
الثالث : أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة.
الرابع : أنَّ قوله ﴿ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ﴾ يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً.
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء، هو الواحد من تلك الأربعة.
وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر، والتقدير : فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً.
قوله :﴿ ثُمَّ اجعل ﴾ « جَعَلَ » يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو « جُزْءاً »، فعلى هذا يتعلَّق « عَلَى كُلِّ » و « مِنْهُنَّ » ب « اجعل »، وأن يكون بمعنى « صَيَّر »، فيتعدَّى لاثنين، فيكون « جُزءاً » الأول، و « عَلَى كُلِّ » هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ.
و « منهنَّ » يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من « جُزْءاً »، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالاً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل « اجْعَلْ » يعني : إذا كانت « اجْعَلْ » بمعنى « صَيَّر »، فيكون « جُزْءاً » مفعولاً أول، و « منهنَّ » مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله :« كُلِّ جَبَلٍ » تقديره :« عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك » حتى يصحَّ المعنى.
وقرأ الجمهور :« جُزْءاً » بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا :« هذا فَرَجّ »، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله :﴿ هُزُواً ﴾ [ البقرة : ٦٧ ]. وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم.
قال أبو البقاء :« وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها ». والجزء : القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه : التجزئة والأجزاء.


الصفحة التالية
Icon