والمنُّ : الذي يوزن به، ويقال في هذا :« مَنَا » مثل : عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.
و « مَنّاً » مفعولٌ ثانٍ، و « لاَ أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل » وَلاَ أَذًى « مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال : الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون » أَذى « اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي : ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين : وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ » وَلاَ أَذَى « بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ : نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة » تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.
» قال عبد الرَّحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - ﷺ - فرأيت النبي - ﷺ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول :« مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم » وقال « يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ » فنزلت هذه الآية الكريمة.
« وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - ﷺ - فقال : كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - ﷺ - :» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ « فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين : إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه » مَنّ «، » ولا أَذًى « قال القفَّال : وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - ﷺ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره : أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.
وقال بعضهم :» فِي سبيلِ «، أي : طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول : إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.
وقال سفيان :» مَنّاً وَلاَ أَذًى « : هو أن قول : قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك : إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا » الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.