﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ ﴾ [ فاطر : ٤ ] فهذا ليس جواباً، بل الجواب محذوفٌ، أي : فتسلَّ، فقد كذِّبت رسلٌ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
والتنكير في « خَيْراً » قال الزمخشريُّ : يفيد التعظيم، كأنه قال : فقد أُوتي [ أيَّ ] خير كَثيرٍ «. قال أبو حيَّان : وتقديره هكذا، يؤدي إلى حذف الموصوف ب » أَيَّ « وإقامة الصفة مقامه، فإنَّ التقدير : فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ، وحذف » أيَّ « الواقعة صفةً، وإقامة المضاف إليها مقامها، وكذلك وصف ما يضاف إليه » أيَّ « الواقعة صفةً، نحو : مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ، والمحفوظ عن العرب : أنَّ » أيّاً « الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو :

١٢٣٢ب- دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً
وقد يحذف المصوف ب » أي « ؛ كقوله :[ الطويل ]
١٢٣٣أ- إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
تقديره : منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك، أعني كونه حذف موصوف »
أيّ « كقراءة الأعمش بإثبات » ها « الضمير و » مَنْ « في قراءته مبتدأٌ، لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط، والاستفهام، يجوز في » مَنْ « النصب بإضمار فعلٍ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء، وقد تقدم نظائر هذا.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم، والمجانين، والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ، وعلى التقديرين : فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية، والحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن، أو قوة الفهم أو الخشية، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟
فالجواب : إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة : إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق، والإعانة، والألطاف، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين، فقد فعل مثله في حق الكفَّار، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف.
قوله :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ وأصل »
يَذَّكَّرُ « : يتذكر، فأدغم.
»
وأُولُوا الأَلْبَابِ « ذوو العقول، ومعناه : أن الإنسان إذا تأمَّل، وتدبر هذه الأشياء، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى، وتيسيره، كان من أولي الألباب.


الصفحة التالية
Icon