والضمير في ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا ﴾ يعود على الصدقات. قيل : يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل : يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة : الواجبة، وبالمخفاة : المتطوَّع بها، فيكون من باب « عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه »، أي : ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل :[ الوافر ]

١٢٣٦- كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ
أي : وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاء في قوله :« فهو » جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من « تُخْفُوهَا » أي : فالإخفاء، كقوله :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ] و « لكم » صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و « خَيْر » يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي : خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي : خيرٌ لكم من الخيور.
وفي قوله :« إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا » نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله :﴿ وَتُؤْتُوهَا الفقرآء ﴾ طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى.
والصَّدقة : قال أهل اللغة : موضوع :« صَ دَ قَ » على هذا الترتيب للصحة، والكمال ومنه قولهم : رجلٌ صدقُ النَّظر، وصدقُ اللقاء، وصدقُوهم القتال، وفلانٌ صادق المودَّة، وهذا خلٌّ صادق الحموضة، وشيءٌ صادق الحلاوة، وصدق فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة، وسمِّي [ الصَّداق صداقاً لأن ] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال، وبقائه، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد، وكماله فيه.

فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر


سئل رسول الله - ﷺ - : صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.
« وقال رسول الله - ﷺ - :» سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... « إلى أن قال :»... ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه «.
وقيل : الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة، والنافلة في البيت أفضل.
وقيل : الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - ﷺ - أمَّا في زماننا، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن.
واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] وقال :﴿ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين ﴾ [ التوبة : ٦٠ ]، »
وقال - ﷺ - :« نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ » والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض.


الصفحة التالية
Icon