قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال :« تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح، يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية ». وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وجوابه ما تقدم : من أنَّ المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً :« ونظير هذا : ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا » فعلى الوجه الأول : يعني نفي القيد وحده : ما تأتينا محدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّث.
وعلى الوجه الثاني : يعني نفي الحكم بقيده ب « ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ، فلا يكونُ حديثٌ »، وكذلك هذا : لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة، فلا يقع إلحاحٌ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم، فتنتفي مترتِّباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديث، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان : من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محلٍّ واحد، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات « وهذا يقرر ما تقدَّم.
وأمَّا الزمخشريُّ : فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال :» وقيل : هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله :[ الطويل ]
١٢٤٥- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ | ............................ |
قال شهاب الدين : وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه، قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ، وأبي بكر بن الأنباريِّ، قال أبو عليٍّ : لم يُثْبِتْ في قوله :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ مسألةً فيهم؛ لأن المعنى : ليس منهم مسألةٌ، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر :[ السريع ]
١٢٤٦- لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا | وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ |
وقال أبو بكرٍ : تأويل الآية : لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك : فلانٌ لا يُرْجى خيره، أي : لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس :[ الطويل ]
١٢٤٧- وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى | كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ |
١٢٤٨- لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ | وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ |
وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال :» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام :« قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل » ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «.