فصل
قال ابن عبد البرِّ : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن المسألة، متى تحل؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه، قيل لأبي عبد الله : فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال : هي مباحةٌ إذا اضطر.
قيل له : فإن تعفَّف؟ قال : ذلك خيرٌ له، وقال : ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ :« مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله ».
قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس، أم يأكل الميتة؟ فقال : أيأكل الميتة، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ.
قال القرطبيُّ : فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله، لما روي « أنَّ رسول الله - ﷺ - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - ﷺ - :» لِمَ رَدَدْتَه؟ « فقال : يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - ﷺ - :» إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله « فقال عُمَر بن الخطَّاب :» والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه «.
والإلحاف، والإلحاح، واللُّجاج، والإحفاء، كلُّه بمعنًى، يقال : أَلحف، وألحَّ في المسألة : إذا لجَّ فيها.
وفي الحديث :» مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَلْحَفَ «، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف :[ الوافر ]
١٢٥٠- يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ | وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا |
١٢٥١- ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ | يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ |
قوله :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ ﴾ هو نظير قوله :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب.