والثانية : بعد خروجهم من البطون، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان، ثم بعد ذلك، يتصرف بعضهم في بعض، في حكم الظاهر.
الثالثة : بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا معنى الرجوع إلى الله.
المعنى الثاني : أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ، وعقابٍ.
قوله :﴿ ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ معناه : أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ]، وقال :﴿ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ].
وفي تأويل قوله :﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ وجهان :
أحدهما : فيه حذفٌ تقديره : جزاء ما كسبت.
والثاني : أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل، فقوله ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ معناه : ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار.
قوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ جملة حالية من « كلِّ نَفْسٍ » وجمع اعتباراً بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في « كَسَبَتْ » اعتباراً باللفظ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن.
قال أبو البقاء : وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في :« يُرْجَعُون » على القراءة بالياء، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء، على أنَّه خروج من الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، قال شهاب الدين : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
فإن قيل : لما قال ﴿ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ فهم منه عدم الظلم، فيكون قوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ من باب التكرير.
فالجواب : أنه تعالى لما قال ﴿ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق، فكان لقائلٍ أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ والمعنى : أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه، وأزاح عذره، فهو الذي أساء إلى نفسه.
وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة، وأمَّا على أصولنا، فالله سبحانه مالك الخلق، يتصرف في ملكه كيف شاء، وأراد؛ فلا يكون ظلماً.


الصفحة التالية