وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ. قال الزّجَّاج :« لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [ إذا تقدَّم ] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن ». وقال الفارسيُّ : ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها، والقياسُ يُفْسِدها، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس، وأبي عُبيدة، وخلف الأَحمرِ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك « إنْ » الجزائيّة ينبغي، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [ لا ] بالتأخيرِ، تقول « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ » وتقول :« بزيدٍ مَرَرْتُ » فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ. وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان :
أحدهما : حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين.
والثاني : بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين.

فصل


لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ : الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها.
قوله :« فَتُذَكِّرَ » وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو :« فَتُذَكِرَ » بتخفيفِ الكافِ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي : جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ] وقال في ذلك الفرزدق :[ الكامل ]
١٢٨٤- وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ
فالهمزةُ في « أَذْكَرْتُهُ » للنقلِ والتَّعدية، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين.
وقد شَذَّ بعضهم قال : مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي : فتجعلها ذكراً، أي : تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال :« فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان، تقولُ لها : هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ، أو فلانة، ومَنْ قرأ » فَتُذكِرَ « بالتَّخفيف فقال : إذا شهدت المرأةُ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر » ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ :
منها : أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه.


الصفحة التالية
Icon