واعلَم أنَّ « إِحْدَى » لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال : إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما، ولا يقال : جاءَتْني إِحْدى، ولا رأيتُ إِحْدَى، وهذا بخلافِ مذكَّرها.
و « الأُخرى » تأنيث « آخرَ » الذي هو : أَفْعَلُ التَّفضيل، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى :﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على « أُخَر »، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ، وفي علَّته خلافٌ، وجمعُ الثانية منصرفٌ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف.

فصلٌ


أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال، حتى يثبت برجُل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي : تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ.
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ، وأحمدُ إلى : أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين، وبشهادة أربع نسوةٍ.
وعن أحمد : يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ.

فصلٌ


قال القُرطبيُّ : لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا، وعند الشَّافعي، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة، وخالف في هذا أبُو حنيفة، وأصحابُهُ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد.
قالوا : لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة، وعددها، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ، فيكون نسخاً، وهذا قولُ الثَّوري، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة.
قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان.
وقال الحكم : القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ، وهو كلُّه غلط، وليس في قوله تعالى :﴿ واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ الآية ما يرد به قضاء رسول الله - ﷺ - باليمين، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً، وليس هو في الآية، مع أنَّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشَّاهد واليمين، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز، وكتب به إلى عمَّاله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.
قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - ﷺ - : قضى بالشَّاهد مع اليمين.
قوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء ﴾ مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى، أي : لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل : المحذوف مجرور لأن « أبى » بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة.


الصفحة التالية
Icon